الحسبرة الإسرائيلية- كيف تشوّه الحقائق وتُبقي الخوف حيًا؟

المؤلف: د. مروان الغفوري11.11.2025
الحسبرة الإسرائيلية- كيف تشوّه الحقائق وتُبقي الخوف حيًا؟

عام 1956، زعم مندوب إسرائيل في الأمم المتحدة كذبًا أن وجود فدائيين فلسطينيين في سيناء أجبر بلاده على احتلالها، سعيًا لوقف العمليات الفدائية المزعومة وحماية الإسرائيليين. هذا الادعاء كان محض افتراء، إذ لم يكن هناك أي فدائيين فلسطينيين متواجدين في سيناء في ذلك الوقت.

في الواقع، كانت إسرائيل تنتظر بفارغ الصبر أية ذريعة للهجوم على سيناء، واستغلت العدوان الثلاثي الفرنسي – البريطاني على مصر كفرصة سانحة لتحقيق مطامعها التوسعية. ورغم ذلك، قوبل هذا العدوان بمعارضة شديدة من قبل الولايات المتحدة، التي اتخذت إجراءات اقتصادية قاسية ضد بريطانيا وعنّفت إسرائيل بشدة.

في تلك الحقبة المضطربة، كان الرئيس الأميركي آيزنهاور يستعد لخوض معركة انتخابية جديدة، بينما كانت الدبابات الروسية تدهم الأراضي الهنغارية بوحشية. وبرر الرئيس الأميركي معارضة بلاده للعدوان على مصر، مؤكدًا أن استخدام القوة لحل النزاعات السياسية يضر بالسلم والأمن العالميين.

من أجل إدانة الزحف السوفياتي على دول شرق أوروبا وتوحيد العالم ضد هذا الغزو السافر، كان من الضروري إدانة أي غزو مماثل تقوم به دول حليفة لآيزنهاور. بالمقابل، سارعت إسرائيل بتفسير مشاركتها في الحرب، مدعية أنها لا تغزو بل تدافع عن حق الشعب الإسرائيلي في الوجود والبقاء. ومن هنا، تعلمت إسرائيل درسًا قاسيًا: يجب أن تتظاهر بدور الضحية قبل إطلاق النار، لتجنب الاضطرار إلى خوض حملة دعائية مضنية للدفاع عن أفعالها.

في الأسابيع التي سبقت نكسة يونيو/ حزيران عام 1967 المشؤومة، اتخذ الرئيس المصري جمال عبد الناصر قرارًا جريئًا بإغلاق مضيق تيران بقوات محدودة ودون توفير غطاء جوي كافٍ. عندها، انطلقت ماكينة الإعلام الإسرائيلي في عزف نغمة البكاء والعويل، متحدثة عن الشعب الإسرائيلي الذي يتعرض للخنق والتجويع. وعندما طلبت الإدارة الأميركية تقريرًا مفصلًا عن حجم الضرر الذي سيلحق بإسرائيل جراء إغلاق مضيق تيران، رفض قادة تل أبيب التعاون، مع العلم أنه باستثناء النفط القادم من إيران، كانت معظم المبادلات التجارية الإسرائيلية مع العالم تتم عبر موانئ أخرى.

دأبت إسرائيل على التحكم في الروايات والأحداث قبل الأزمات وبعدها، وبحلول الثاني عشر من أكتوبر/تشرين الأول عام 2023، كانت قد غزت منصات "يوتيوب" و"إكس" بإعلانات مؤثرة ومبكية حول المأساة المزعومة التي حلت بأطفالها.

إن الدمار الهائل الذي ألحقته القوات الإسرائيلية بالدول العربية، بعد ذلك بأيام قليلة، اكتسب شرعية أخلاقية زائفة. فمن غير المعقول أن يقف أي جيش في العالم مكتوف الأيدي بينما الأعداء يخنقون شعبه ويمنعون عنه الوقود والغذاء.

إن مصطلح "الحسبرة" (Hasbara) هو كلمة عبرية محببة تعني في اللغة العبرية الكلاسيكية "التوضيح". ومع مرور الوقت، أصبحت تشير إلى الدبلوماسية العامة الإسرائيلية، وهي عبارة عن بروباغندا مستمرة تعمل على التحكم في الرواية القادمة من الشرق الأوسط وتوجيهها بما يخدم هدفين رئيسيين في آن واحد: تقديم صورة حسنة عن إسرائيل، وتشويه صورة الشعب الفلسطيني وتقديمه بصورة قاتمة.

في إطار نظام الحسبرة، تحرص إسرائيل على تقديم نفسها كضحية مهددة، وتدعي أن هذا التهديد نابع من كونها "الديمقراطية الوحيدة" في المنطقة، ومن اختلاف ديانة شعبها. أما الفلسطيني، وفقًا للحسبرة، فهو عبارة عن نظام فاسد في رام الله، وجماعات إرهابية في غزة، ومجموعات بشرية متناثرة تلقن أولادها كراهية اليهود.

تدرك إسرائيل جيدًا أهمية الرأي العام العالمي، وتبذل جهودًا مضنية للحفاظ على صورتها الخارجية. فهي وإن لم تنجح في أن تصبح بلدًا لكل يهود العالم، فقد تحولت إلى كعبة الديانة اليهودية، ولا بد من الحفاظ على صورتها مشرقة وملهمة في نظر العالم أجمع.

الاستطلاع الذي أجراه مركز بيو للأبحاث، المتخصص في قياس الرأي العام، في عام 2019 كشف عن أن 45% من اليهود الأميركيين قد زاروا إسرائيل مرة واحدة على الأقل في حياتهم، وأن 82% منهم يعتبرون الاهتمام بإسرائيل وشؤونها جزءًا جوهريًا من هويتهم اليهودية. وتشمل أنشطة "الاهتمام"، الحفاظ على صورة إسرائيل، والتدريب على وسائل وتقنيات الحسبرة المختلفة.

في عام 2002، وفي خضم الانتفاضة الفلسطينية الثانية، نشر الاتحاد الدولي للطلبة اليهود "كتاب الحسبرة، كيف تدافع عن إسرائيل في الحرم الجامعي؟". يقع الكتاب في 131 صفحة، خصص النصف الأول منه لشرح عدد من المسائل المتعلقة بالاتصال بالعالم، مثل الكتابة، والخطابة، والمراسلات. بينما انفرد الجزء الأخير منه بتلقين الطالب اليهودي "المعضلة وحلها"، مثل: مسألة اللاجئين الفلسطينيين، والإرهاب، ومفاوضات كامب ديفيد الفاشلة، والمستوطنات غير الشرعية، وغيرها من القضايا الشائكة.

فيما يتعلق بمسألة المستوطنات، يتوجب على الطالب اليهودي أن يردد هذه الكلمات: "لا توجد مشاريع استيطانية جديدة، بل هناك توسع طبيعي للأسر اليهودية التي يتزايد عدد أفرادها باستمرار".

وأمام "الادعاء" القائل إن وجود إسرائيل يزعزع أمن واستقرار منطقة الشرق الأوسط، يتعين على الطالب اليهودي، في أي مكان في العالم، أن يعالج المسألة بهذه الكلمات: "يعاني الشرق الأوسط من اضطرابات عميقة نتيجة للانقسامات الدينية والإرث الاستعماري البغيض، فضلًا عن سلسلة من الأزمات المعقدة، مثل الحرب العراقية – الإيرانية، والثورة الإسلامية الإيرانية، والغزو العراقي للكويت، والصراع الإسلامي- العلماني في مصر، والثروات النفطية الهائلة التي تذهب ريعها للنخب الحاكمة دون أن تنعكس على حياة الشعوب".

دأبت إسرائيل على التحكم في الروايات وتوجيه دفة الأحداث قبل الأزمات وبعدها. وبحلول الثاني عشر من أكتوبر/تشرين الأول 2023، كانت قد أغرقت منصات "يوتيوب" و"إكس" بإعلانات مؤثرة ومبكية تتحدث عن المأساة التي حلت بأطفالها.

بعض هذه الإعلانات ينتهي بعبارة مؤثرة: "نعلم أن الأطفال لا يستطيعون قراءة ما هو مكتوب هنا، ولكن الآباء يقدرون ذلك. صلوا من أجل الأسر التي فقدت أطفالها في إسرائيل". وفي أحد هذه الإعلانات، تظهر صورة ضبابية لجثة طفل مضرّج بالدماء، مع مناشدة موجهة إلى الآباء – الغربيين تحديدًا- بأن يحتضنوا أطفالهم بشدة.

استخدمت إسرائيل قضية الطفولة في صناعة صورة الضحية منذ سنوات تأسيسها الأولى. ففي أثناء الحرب العالمية الثانية، وبعد عام 1942 تحديدًا، بدأت آنّا فرانك، التي كانت تبلغ من العمر 13 عامًا آنذاك، في تدوين يومياتها في قبو بمدينة أمستردام. وفي الوقت نفسه، كانت فتاة يهودية أخرى تدعى روث ماير تفعل الشيء نفسه في النرويج، حيث فرت إليها من مدينة فرانكفورت الألمانية.

ما دونته ماير كان أكثر شمولًا وبلاغة مما كتبته فرانك، إلا أنها كانت شابة في الثانية والعشرين من عمرها عندما فقدت حياتها في أحد معسكرات النازية سيئة السمعة. ونتيجة لذلك، ظلت مذكراتها مهملة ومنسية حتى عام 2008، وبالكاد لاقت أي رواج أو اهتمام.

تبحث الحسبرة دائمًا عن صور ثرية وغير تقليدية لتعزيز خطابها الدعائي، وهذا ما توفره قصة آنّا فرانك أكثر بكثير مما تقدمه قصة روث ماير. فمن خلال قصة آنّا فرانك المؤثرة، تمكنت إسرائيل من تعذيب الضمير الأوروبي لأكثر من نصف قرن.

تعمل الظاهرة الاستعمارية، بجميع أشكالها وصورها، على التقليل من إنسانية السكان الأصليين، من خلال الادعاء بأنهم يحملون جينات إجرامية موروثة في حمضهم النووي، كما أشار الكاتب النيجيري بيكو أغوزينو ببراعة. إن شيطنة السكان الأصليين تسهل عملية محوهم وإقصائهم، لأنه عندما تكون المشكلة متأصلة في الجينات، يصبح أي وسيلة إصلاح أو تغيير ضربًا من العبث.

في الأيام الأولى من الحرب على غزة، وصف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أطفال فلسطين بـ "أبناء الظلام"، في مقابل "أبناء النور" في إسرائيل. إن إسرائيل تشن كل حرب بعد أن تبني قصة الضحية وتنشرها على أوسع نطاق ممكن. فالضحية لا يُتوقع منها أبدًا أن تتسبب في الأذى، وبهذه الطريقة تتجرأ إسرائيل على الحديث عن "الجيش الأكثر أخلاقية في العالم"، و"الديمقراطية الوحيدة" في المنطقة.

بفضل التدفق الهائل للمعلومات، أصبح العالم أكثر قدرة على الرؤية والتحليل، وأصبح الفرد العادي قادرًا على ربط الأحداث ببعضها البعض وإلقاء نظرة شاملة على ما يجري حوله.

من المثير للدهشة أن نلاحظ أن خطاب الحسبرة لا يزال يعمل بالطريقة نفسها: تصوير إسرائيل كضحية محاطة بالهمج. لقد تركت إسرائيل وراء ظهرها مجموعة من التعقيدات التي لا يمكن إخفاؤها عن طريق الحسبرة وحدها، مثل قضية اللاجئين الفلسطينيين، والاحتلال العسكري، والحصار الجائر، والفصل العنصري الممنهج، وانتهاك القانون الدولي بشكل صارخ.

مع كل عملية عسكرية تشنها إسرائيل داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، يتم إعادة إنتاج كل هذه القضايا المعقدة، مما يفقد الحسبرة قدرتها على التأثير والتضليل. فالحروب لا تجري في الفراغ، بل في سياق تاريخي مركب ومتشابك. وقد أظهرت نتائج الاستطلاع الذي أجرته منظمة "غلوب سكان"، ومقرها كندا، في عام 2013 وشمل 25 دولة حول العالم، أن 21% فقط من المشاركين يحملون صورة إيجابية عن إسرائيل.

جاءت هذه النتيجة بعد عام واحد من حرب غزة عام 2012 الدامية. وفي يوليو/تموز 2014، شنت إسرائيل حربًا جديدة على غزة، معززة بضجيج الحسبرة العالي حول "الجيش الأخلاقي" الذي يدافع عن "حق اليهود في العيش".

وبعيد انتهاء الحرب، أجرت مؤسسة "تشاتام هاوس" استطلاعًا للرأي داخل بريطانيا، ونشرت نتائجه في عام 2015، لتلاحظ أن كوريا الشمالية هي الدولة الوحيدة التي تفوقت على إسرائيل في سوء السمعة وتدني الصورة.

وفي هذه الحرب، استطاعت منظومة الحسبرة أن تضع أكاذيبها على لسان الرئيس الأميركي نفسه، وأن تدفع قادة الدول الديمقراطية إلى ترديد أحط أنواع الأكاذيب والمزاعم الباطلة. وعلى الرغم من كل ذلك، فقد ذهبت إسرائيل لأول مرة إلى محكمة العدل الدولية وهي محاطة باتهام موثق بارتكاب جريمة إبادة جماعية.

ليس لإسرائيل سياسة خارجية حقيقية، بل سياسة داخلية فقط، كما لاحظ المفكر السياسي هنري كيسنجر. وهي تستعيض عن السياسة الخارجية من خلال ممارسة الحسبرة المكثفة. ويذكر كتاب الحسبرة، المشار إليه أعلاه: أن على الطالب اليهودي أن ينقل النقاش حول السلام من مجرد مبدأ مجرد إلى "صيرورة" مستمرة، وأن يتجنب الخوض في النتائج النهائية. تتطلب الحسبرة صورة صغيرة لتبني عليها كيانًا كبيرًا، وإذا لم تجد هذه الصورة، فإنها تختلقها وتزورها.

فعندما وقف المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد، في يوليو/تموز عام 2000، بالقرب من الحدود الإسرائيلية- اللبنانية وألقى حجرًا باتجاه الحاجز الحدودي، انطلقت آلة الحسبرة لتفعل فعلها، وكاد أستاذ الأدب الإنجليزي أن يخسر منصبه المرموق في جامعة كولومبيا.

الحجر الذي ألقاه سعيد، في سباق عفوي مع ابنته، تحول إلى دليل إضافي على "همجية الفلسطيني"، حتى وإن كان أستاذًا للأدب الإنجليزي. وتحت وطأة هجوم الحسبرة الشرس، عاتب سعيد أصدقاءه العرب، قائلًا: "إنه كان يود لو استطاع مجاملتهم بطريقة أخرى غير تلك"، كما يروي الكاتب والصحفي شكيب كاظم في صحيفة القدس العربي.

تستطيع آلة الحسبرة أن تخلق حقائق بديلة ومزيفة، وأولى ضحايا هذه الآلة هو الشعب الإسرائيلي نفسه. وفي كتابهما "النكبة بالعبرية"، الصادر حديثًا عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية، يتحدث الزوجان إيتان وإليونور برونشتاين عن دور الحسبرة داخل منظومة التعليم المدرسية، حيث يتم تقديم العربي الفلسطيني كشخص "بربري" دائم السعي لاجتثاث إسرائيل من الوجود.

يتعلم التلاميذ الإسرائيليون أنه لا توجد مساحة للالتقاء أو التعايش مع الفلسطينيين، وأن الخيار الوحيد المتاح هو إما إسرائيل من البحر إلى النهر، أو فلسطين. ويؤكد المؤلفان أن الجيش الإسرائيلي يعمل باستمرار على خدمة هذه الرواية التحريضية، ومن وقت لآخر يقتحم جنرالاته المدارس ويتحدثون إلى التلاميذ بشكل مباشر لتلقينهم هذه الأفكار.

في الحرب الحالية، تعمل آلة الحسبرة داخليًا ببراعة بعد أن فقدت تأثيرها الخارجي إلى حد كبير، ولا يزال الشعب الإسرائيلي بأغلبية ملحوظة يؤيد المزيد من العمليات العسكرية على غزة، ويشعر بخوف مستمر.

ليست الحرب هي السبب الوحيد للخوف الإسرائيلي المستدام، بل إن آلة الحسبرة تلعب دورًا كبيرًا في هذا الخوف، فهي تضع الإسرائيلي على صفيح ساخن باستمرار، وتعيده إلى تاريخه حيث نام طويلًا على حقائبه المعبأة، متأهبًا للرحيل في أي لحظة. وقد أظهرت دراسة أجراها مركز الكنيست للبحث والمعلومات، في عام 2019: أن قرابة نصف الإسرائيليين في الشمال والجنوب لا يشعرون بالأمن، وأن ثلثهم يفكرون بجدية في الرحيل إلى مناطق أكثر أمنًا واستقرارًا.

تتذكر إليونور برونشتاين في كتابها "النكبة بالعبرية" اللحظة التي اكتشفت فيها، وهي فرنسية الأصل، يهوديتها. كانت تلعب في طفولتها مع ابنة خالتها، ووجدت نفسها تقول: "إذا عاد النازيون، فإنك ستكونين على رأس القائمة عندهم، لأنك يهودية". لترد عليها ابنة خالتها قائلة: "أنت أيضًا يهودية، وسيأخذونك كذلك". عندها شعرت إليونور بالخوف فجأة، وأدركت معنى أن يكون المرء يهوديًا في عالم معادٍ.

إن الحسبرة التي لا تكف عن الترويج للخطر الوجودي المحيط بإسرائيل قد تعجز عن خداع العالم طوال الوقت، ولكنها تنجح في الداخل، وتخلق مواطنًا خائفًا يعيش على وقع الحقائب المعبأة والجاهزة للرحيل في أي لحظة.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة